الأحد، 17 أكتوبر 2010

قيمة المواطن في تشيلي وبوليفيا ومصر .. د. حمدي حسن

 
16/10/2010
د. حمدي حسن
كما أوضحتها أزمة "منجم سان خوسية" والعبارة السلام 98 وصخرة الدويقة
سامح الله قناة (الجزيرة) التي جلبت إلينا المواجع وهي تنقل على الهواء مباشرةً عملية إنقاذ عمال منجم سان خوسية الـ 33 بدولة تشيلي، والذين مكثوا تحت الأرض 69 يومًا.
انتابني شعور غامر بالفرح والسرور والشكر لله وأنا أتابع على الهواء مباشرة الكبسولة، وهي تدخل المنجم وبها أحد المهندسين للمساعدة في إجلاء العمال، ورأيتني أكاد أقفز من مقعدي، وأنا أرى أول عامل يخرج بسلامة الله من الكبسولة إلى سطح الأرض, كان أذان الفجر يتردد صداه في الآفاق يوم 13 أكتوبر 2010م، حين خرج؛ حيث استقبله أولاً المختصون بفتح باب الكبسولة، وفك أحزمة الأمان، ثم طفله، ثم زوجته، ثم رئيس الموقع، والعاملون به، ثم رئيس الدولة الرئيس سيباستيان بينييرا، ثم الفريق الطبي الذين نقلوه مباشرة إلى المستشفى الميداني، الذي أُعدَّ خصيصًا في المكان.
اختفى العمال الـ33 داخل منجمهم بعد أن أغلق عليهم نتيجة زلزال اتبعته انهيارات أرضية، وظلوا منفصلين عن العالم 17 يومًا كاملة، دون أي أخبار عنهم، حتى نجحت أجهزة الإنقاذ في العثور عليهم، والتواصل معهم، ووقتها عرف الجميع أن جميع العمال أحياء تحت الأرض.
تم التجهيز لعملية الإنقاذ بدقة شديدة، فالعمال على بعد 700م تقريبًا داخل بطن الأرض، ووصلت إليهم كبسولة الإنقاذ بعد 69 يومًا، وبلغت تكلفة الإنقاذ20 مليون دولار تقريبًا، وتم إعداد العمال لوقت الإنقاذ نفسيًّا وجسديًّا، فتحددت لهم نوعية الأطعمة وفرضت عليهم تمارين رياضية يمارسونها داخل المنجم المحجوزين فيه، حتى لا يصابون بالبدانة، فلا يستطيعوا ركوب الكبسولة والخروج بها.

دار حديث بيني وبين بعض المهتمين.. ماذا لو كان هؤلاء في مصر؟ كيف سيتم التعامل معهم؟

أحدهم قال: إن الرئيس بالطبع سيكون أول المستقبلين، وقال آخر: بل ستكون الأولوية للأبناء والزوجات، فالرئيس قلبه كبير وسيراعي الناحية النفسية، واتفق الاثنان أن الرئيس سيفعل هذا وذاك، ولكن من وراء حاجز زجاجي ضد الرصاص، كما يفعل حين تجبره الظروف على مخالطة شعبه!.

ولما سُئلت عن رأيي قلت: للأسف إن الرئيس لن يحضر من أصله، وإذا تكرم بالاهتمام، فسيصدر توجيهات، ثم يمضي لشأنه، وقد يكون هذا الشأن غير ذي بال أو أهمية, وأن هذا حدث بالفعل.
فقد غرقت العبارة المصرية السلام 98 وبها 1400 مواطن، فماذا حدث وكيف تصرَّف الرئيس؟

وفقًا لما أعلنه الوزير مفيد شهاب، فقد أرسلت الدولة كاسحة لغام وفرقاطة حربية؛ لإنقاذ الضحايا، وأن أول وسيلة إنقاذ وصلت بعد حوالي 16 ساعةً من الحادث، وتم إنقاذ ما يقرب من 600 مواطن.
فيما بعد أوضحت التحقيقات أنه يوجد لدى مصر 11 قارب إنقاذ سريع ذاتي الاتزان يعمل في كل الأجواء والظروف الجوية السيئة ويستطيع الوصول إلى مكان الحادث خلال ساعتين فقط, لم يُستخدم منها واحد! ولا واحد! وأن إشارات الإغاثة قد وصلت إلى مراكز الإنقاذ في وقتها، ومع ذلك لم يتحرك أحد, ولم يحاسب أحد!.
وحين تجمَّع ألوف من أهالي الضحايا بالميناء في ظروف جوية صعبة يتلمسون أي معلومة تطمئنهم على أهاليهم، تم إرسال قوات الأمن المركزي لهم تضربهم بالعصي الكهربائية وبالقنابل المسيلة للدموع، وقهرهم وإذلالهم، بدلاً من العطف عليهم وإمدادهم بما يساعدهم على الإقامة في الظروف الصعبة، أو حتى مكتب للمعلومات يمدهم بالمعلومات أولاً بأول، بدلاً من هذا التجهيل والتجاهل من جميع المسئولين، بل ظلوا يترددون بين سفاجا والغردقة ومشرحة زينهم بالقاهرة، وكأن المسئولين يتلذذون بتعذيبهم والتنكيل بهم، دون مراعاة أبسط قواعد المسئولية أو الإنسانية!.

حين قرر الرئيس القيام بواجبه حضر إلى الميناء لمدة 15 دقيقةً فقط أصدر خلالها بعض التوجيهات إلى المسئولين، ثم انطلق سريعًا إلى إستاد القاهرة؛ ليمكث فيه 5 ساعات كاملة هو وأسرته لمشاهدة مباراة في كرة القدم؛ مبتهجًا يقوم ويقعد مشجعًا وملوحًا بالأعلام، ومعه رئيس الوزراء والوزراء وبقية المسئولين، وهم الذين صدرت لهم التوجيهات دون أدنى اكتراث بمشاعر 1400 أسرة مصرية أصابتهم الكارثة، وهي كارثة للوطن بكل تأكيد!!.
أصدر الرئيس توجيهاته إلى رئيس الوزراء الذي أصدر توجيهاته إلى الوزير الذي أصدر توجيهاته إلى المحافظ الذي أصدر توجيهاته إلى مدير الأمن الذي أصدر أوامره إلى جنود الأمن المركزي بضرب مواطنيهم بالقنابل المسيلة للدموع والعصي الكهربائية؛ كي يتسنى لهم جميعًا الاستمتاع بمتابعة مباراة الكرة دون تعكير للصفو أو المزاج!.

1400 مواطن تُركوا يواجهون أسماك القرش، ويصارعون الغرق والأمواج والبرد والظلام والرعب, أسر كاملة ومئات المواطنين كان يمكن إنقاذهم لو كان هناك همة أو مروءة أو استشعار للمسئولية تجاه الله أو تجاه الشعب.

وحين جاء وقت المساءلة تم تقسيمها إلى مساءلة جنائية أولاً وسياسية ثانيًا.

في الشق الجنائي تم تسهيل هروب المتهم الأول، وقام النائب العام بإحالة الموضوع إلى محكمة الجنح تمامًا كأي بائع خالف تسعيرة الطماطم- إن كان لها تسعيرة- وحكمت المحكمة بعد ذلك بالسجن عدة سنوات على المتسبب في غرق 1400 مواطن، وهي عقوبة تصل إلى الحبس 48 ساعةً عن كل شهيد تقريبًا! "يا بلاش"!

في الشق السياسي قام المجلس بتشكيل لجنة تقصي حقائق برئاسة النائب المحترم حمدي الطحان، كشفت عن جرائم بالخصوص، ثم حاول المجلس التغطية بتحويل الموضوع إلى لجنة فرعية لتزوير التقرير برئاسة أبو العينين، ثم أضطر المجلس إلى مناقشة التقرير بعد انتهاء التحقيق الجنائي ووسط تصفيق غير مسبوق، خاصة من نواب الوطني بالصعيد، وهم نواب أكثر المناطق تضررًا من الموضوع انتقل المجلس إلى جدول الأعمال لينسدل الستار مؤقتًا عن الصمت عن أكبر جريمة ضد الشعب المصري.

مع انتهاء الكبسولة من إخراج آخر العمال بعد انقضاء 24 ساعًة على بدء أعمال الإنقاذ ظلَّ خلالها الرئيس التشيلي بالموقع مستقبلاً كل العمال، تَذَكرت صخرة الدويقة التي انهارت على مئات المصريين واختفت بعدها أسر كاملة لم نستطع حتى تحديد عددهم أو مكانهم.

في الدويقة كانت التوقعات بانهيار الصخور مؤكدة، وقامت الدولة بقبول تبرعات دولة الإمارات العربية بقيمة 250 مليون جنيه؛ لإتقاذ هؤلاء الضحايا المتوقعين، قامت الدولة باستخدامها في بناء مدرسة للكلاب!  وبعض المساكن التي تم توزيع بعضها على المعارف والمحاسيب وبالرشاوى، بينما أصحابها المحتاجون الحقيقيون لم يحصلوا على شيء حتى دفنوا تحت الصخور المنهارة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

تجدر الإشارة إلى أن نائب الدويقة المنكوبة هو نفسه وزير الإسكان، الذي يقع على عاتقه حماية أبنائها من هذه الكارثة! وبالتأكيد لن نراه يرشح نفسه لمجلس الشعب مرة أخرى في هوجة ترشيح الوزراء السارية حاليًّا، وهو الذي كان يمشي كالطاوس وزيرًا ونائبًا متخايلاً بنفسه وبحزبه ولجنة سياساته!.

وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن الرئيس البوليفي إيفو موراليس أصر على الحضور إلى منجم سان خوسيه للترحيب بمواطنه كارلوس ماماني، أحد العمال الذين أنقذوا، معلنًا أن بوليفيا لا تعرف كيف "تدفع دينها لتشيلي للجهود التي بذلتها، وقال "باسم الحكومة البوليفية، لا أعرف كيف أدفع دَيْنا حيال هذه الجهود."

بوليفيا تعتبر ما فعلته تشيلي من أجل إنقاذ مواطن واحد لها دَيْن في عنقها لا تعرف كيف سترده، بينما عشرات أو مئات المصريين يقتلون بكل أنواع القتل يوميًّا في دول كثيرة، ونشعر نحن الشعب أن حكومتنا تعتبر هذا دينًا عليه يطوق عنقها لا تعرف كيف سترده، بل إن عدونا الذي قتل مئات الأسرى غدرًا ويتباهى بذلك ليل نهار جهارًا نهارًا أصبح أحد كبار أصدقاء رؤسائنا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

مشهد الرئيس التشيلي وهو يجلس في الموقع مع شعبه وأهالي المنكوبين يغني وينشد ويصفق ويضحك يحضن الناجين ويقبلهم دون حراسة ودون حاجز زجاجي ودون أمن مركزي يستحق أن نقف أمامه نحن المحرومين طويلاً.

لقد فعلناها نحن المسلمين في أوج قوتنا ومجدنا، فحين جاء قائد الفرس أسيرًا وجد أمير المؤمنين نائمًا آمنًا تحت شجرة دون حراسة..  فقال قولته الشهيرة: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر..  

ليست هناك تعليقات: